وجه الأكاذيبالمصدر:
التاريخ: 10 يونيو 2011
لا تكتمل بشاعة الجريمة إلا إذا وجدت إعلاماً يبررها، ويرى أنها ضرورة أخلاقية وإنسانية، ولا يعرف الطاغية علوّ شأنه في المكان والزمان، إلا إذا وجد إعلاماً ينحني له، ويهتف له أن الانحناء شكل أوليّ للصلاة.
إنها سيرة الجريمة، ولا طريق لها أشد وضوحاً من سقوط الإعلام في مستنقع الأكاذيب إلى أقصى حدود الغرابة والصدمة. الإعلام الذي عاش عقوداً يُمارس التعتيم وجدَ أنه عاجز عن ذلك في عصر الصورة، فقرر قتلها وقتل الضحايا مرتين.
من آخر ما شهدتُ، ندوة على تلفزيون رسمي، استضاف « خبراء » في الإعلام و« أخصائيين » اجتماعيين اتفقوا على أن موت الأطفال في ربيع العرب مؤشر إلى تفكك العائلة، وضعف سيطرة الآباء، وتراجع مكانتهم.
وتساءل أحدهم عن وجود الأطفال والفتيان في المظاهرات، من حيث يجب أن يهتموا بدروسهم، وصحتهم، وحمّل ثانٍ الآباء مسؤولية موتهم في حركات التعبير في الشوارع العربية.
ألا يُذكركم ذلك بآلة الدعاية الإسرائيلية التي تؤكد دائماً أن الفلسطينيين يكرهون أطفالهم ويزجون بهم لمواجهة الجنود والبنادق، وحينما يُقتلون تُزغرد الفلسطينيات، وتشهد البيوت أعراساً لا مآتم.
للأكاذيب وجه واحد، ولا فرق بين إعلام الدول التي تحترف الكذب. إنها كيانات مريضة بالاستبداد، ولا يردعها شيء، لا تحتمل حجراً صغيراً، ولا غصن زيتون، لا تصدق أن قبضة صغير تنادي على الحرية في الهواء. تقطع القبضة، وتقطع الهواء، ثم يستنكر إعلامها تلك القبضة، قائلاً: كان عليها أن تحمل كتاباً أو قلماً في صف مدرسي.
يريد الطفل مكاناً ينام فيه دون جوع وخوف، يريد أباه في البيت لا في السجن، يريد مدرسة لا زنزانة تُغتصب فيها طفولته وكرامته وحياته القصيرة. وتريد أمه صوره معلقة في أرجاء البيت، حين مشى أولى الخطوات، وفي عيد ميلاده الأول، وفي أول يوم له في المدرسة.
تريد الأم هذه الصورة، ولا تنتظر إعلاماً وقد أهان أمومتها، وحمّلها مسؤولية صورة الطفل الضحية، وقد كسرَ الجلاد رقبته، وثقبَ رئته، وقطعَ أعضاءه، تحت تعذيب متوحش، ومنزوع من أي إنسانية.
كلنا يعرف الطفل العربي الذي أدمت صوره قلوب الملايين في الأيام الماضية، حين قال إعلام بلاده إنه ليس طفلاً، وإنما فتى، في مسعى لتخفيف وطأة الجريمة، ثم قال إنه لم يمت تحت التعذيب، وإنما كان ضحية لتبادل إطلاق النار.
الجريمة بالجريمة تُذكر. فهل تذكرون الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي استشهد أمام والده في العام ،2000 وقالت إسرائيل إنه قتل لأنه كان موجوداً في منطقة تبادل نار مع الفلسطينيين، مع أن التحقيقات أثبتت أن المجرمين ليسوا سوى قناصة إسرائيليين.
هكذا يُدرّب الإعلام الأكاذيب على القفز عن الحقائق، وهكذا يموت الأطفال العرب وهم يخرجون لصناعة مستقبلهم. يظنون أن القناص أكثر رأفة من إرسال رصاصات إلى قلوبهم الغضة. يظنونه أكثر شجاعة من أن ترعبه عيونهم الفتية وزنودهم الصغيرة، ويظنون أنهم سيكبرون، ويرفعون أعلام بلادهم عالياً، لا أن ترفعهم بلادهم جثثاً في توابيت خفيفة تُسرع إلى الفجيعة والتراب.