لست مبالغاً لو قلت بأن الشعب الجنوبي أكثر الشعوب العربية والإسلامية تمسكاً وإيماناً بهويته العربية والإسلامية، بل وأكثر الشعوب العربية مناصرةً للقضايا العربية والإسلامية التي تأتي الوحدة والتكامل العربي والإسلامي، في مقدمة تلك القضايا، لذلك فحقائق التاريخ تخبرنا بأن شعب الجنوب كان على مر تاريخه مناصراً وداعماً لجميع القضايا العربية والإسلامية العامة والخاصة، بل ومشاركاً في الدفاع عنها، وكانعكاسٍ طبيعي لهذه السمة القومية والعقائدية التي يتمتع بها شعب الجنوب، فإن مفاهيم الانفصال والانقسام والتمزق والتجزئة، تعد من المفاهيم والمفردات التي تسبب ردت فعل غاضبة ورافضة لدى هذا الشعب، ومن خلال تلك الحقيقة نستطيع فهم وتفهم اندفاع الجنوبيين لوحدة مع شعب اليمن الشمالي في 22مايو1990م دون حساب لأية عواقب ودون اعتبار لقواعد السياسة والكياسة والحرص في مثل تلك الخطوات المصيرية، ودون حتى التأمل والتفحص لنوايا الطرف الآخر ومدى صدقها وجديتها في تحقيق هذا الحلم الجنوبي المقدس، كما أن تلك الحقيقة أيضاً تجعلنا نفهم ونتفهم إصرار الجنوبيين واستبسالهم في محاولة إنقاذ حلمهم بالوحدة بعد نكث الطرف الآخر بكل عهوده ومواثيقه والقضاء على شراكة الجنوبيين فيه، رغم ذلك حاول الجنوبيون لمدة أربع سنوات إنقاذ حلمهم ذاك من الانهيار والموت، لكن تحالف الشر المؤسس على ثقافة القبلية والفيد والغنيمة والاستبداد والسيطرة، كان أقوى واكبر من إصرار الجنوبيين وقدراتهم في الدفاع عن حلمهم الجميل والمقدس، فاستطاع ذلك الحلف إن يجند للقضاء على ذلك الحلم قبل اكتمال ولادته الحقيقية، كل قواه المادية والبشرية والمعنوية والإعلامية، فحشد الآليات العسكرية والقوى البشرية من جنود وضباط ومجاهدين وقبائل ومرتزقة ومغرر بهم للقتال في الميدان، وعلماء ومشائخ وخطباء للتحريض والإفتاء بمشروعية قتل إفراد جيش الجنوب ومن يتحصنون بهم من أطفال ونساء، وكتاب وصحفيين وإعلاميين للترويج لحربه ولرفع همم المقاتلين والتمويه عن حقائق أهداف زعماء حلف الشر من تلك الحرب وتصويرها بأنها لأجل الحفاظ على الوحدة التي نكث بمواثيقها، وبجهود وتعاون كل وسائل وأدوات حلف الشر السابق ذكرها، استطاع الحلف أن يقضي على حلم الجنوبيين في 7/7/1994م، ولم يقف الأمر عند ذلك بل استمر حلف الشر ذاك، في اجتثاث ومحو قيم حلم الوحدة الجميلة من نفوس الجنوبيين وتحويله من قيمة نفعية حضارية وأخلاقية وعقائدية سامية وهدف قومي عزيز ونبيل، إلى مجرد حق تاريخي لحكام الشمال على أرض الجنوب، انتزع ذلك الحق ــ حسب دعواهم الزائفة ــ الاستعمار الغربي كرهاً عليهم، وبالتالي فالوحدة طبقاً لهذا المفهوم هي عبارة عن عودة الحق (الأرض) المسلوب سابقاً إلى ملاكه الحقيقيين من خلال عودة الفرع إلى أصله والجزء إلى الكل وعودة البنت الضالة(الجنوب) إلى حضن أمها اليمن(صنعاء) وطالما المقصود بذلك الفرع والجزء والبنت هو الأرض، فإن سكان تلك الأرض وفقاً لذلك المفهوم ليس لهم حق السيادة أو التملك على تلك الأرض لأنهم طبقاً لذلك المفهوم ـــ أيضاً ــــ مجرد رعية ورعاع لدى مالكها الأصلي (حكام الشمال) والمالك للأرض وفقاً للأحكام الشرعية والقانونية هو وحده من له الحق في جميع التصرفات على تلك الأرض (بيع، هبة، تنازل، استغلال، انتفاع)، لذلك عمد حلف الشر المنتصر في 7/7/1994م على تجسيد هذا المفهوم للوحدة وترجمته قولاً وعملاً على الجنوب أرضاً وشعباً، محاولاً بكل وسائله إحلال ذلك المفهوم، محل مفاهيم الوحدة الجميلة الراسخة في نفوس الجنوبيين بعد أن أصبح ثقافة وسلوك وعقيدة لدى شعب الشمال على مر العصور، لذلك كانت تواجه شكوى الجنوبي أو أنين ألمه من تلك الوحدة الظالمة بالرد من جميع أشقائه بالشمال: (ما دخل الوحدة فيما تعاني منه فنحن كذلك نعاني منه) وهكذا تكون الإجابة انعكاساً وترجمة لمفهوم الوحدة لدى الطرف الآخر..
مرت سبع عشرة سنة على وحدة (المالك والأرض والرعية) بعد القضاء التام على مشروع الدولة المدنية اليمنية الموحدة حلم الجنوبيين الذي وئد قبل اكتمال ولادته، فبعد هذه المدة بكل آلامها ومآسيها وأوجاعها، أفاق شعب الشمال وأدرك أن الجنوبيين كانوا على صواب في مفهوم حلمهم الوحدوي، ولكن لان حب الذات والأنانية طباع متأصلة في نفوس بني البشر (إذا مسه الخير منوعاً وإذا مسه الشر جزوعاً)، فإن فئات ومكونات ذلك الشعب (الاجتماعية والسياسية والثقافية) بل وإفراده، لا تقر أو بالأصح لا تريد الإقرار باشتراكها في ارتكاب ذلك الخطاء بحق الجنوبيين وحلمهم العزيز ولا الإقرار بنتائج ذلك الخطاء (الجرم):
فبالنسبة للمسئولية عن قتل حلم الجنوبيين بالوحدة: تحاول تلك الفئات أن تنسب ذلك الجرم إلى الجزء الأضعف المتهالك من نسيجها الاجتماعي والسياسي، التي تريد في الوقت الراهن التخلص منه وهو نظامها السياسي القائم الذي يترأسه على عبدالله صالح، بل وإمعاناًِ في الذاتية المفرطة تحاول تضييق دائرة المسئولية عن ذلك الجرم بالرئيس وأسرته فقط.. وهذا التبرير (الهروب) يعكس حقيقتين أولها: إن مفهوم الوحدة (الأصل والفرع والأم والبنت)المتوارث عبر الأجيال لدى الشعب في اليمن الشمال، مازال راسخاً كثقافية وسلوك في الوعي الفردي والجمعي لذلك الشعب، ذلك أن محاولة تحميل مسئولية الجرم في القضاء على الوحدة إلى شخص الرئيس وأسرته الحاكمة الذين صاروا اليوم محل اتهام وعداء مع شعبهم المطالب برحيلهم عن السلطة، هذا التبرير بقدر ما هو هروب من المسئولية فإنه محاولة لإثبات أن سبب مشاكل وقضايا الشعبين، هو سبب واحد، هو علي عبدالله صالح وأسرته الحاكمة، ومن ثم فهذا يستلزم ضرورة توحد الشعبين لاقتلاع ذلك السبب والذي بزواله تزول جميع المشاكل ويبقى فقط معالجة نتائج تلك المشاكل التي تسبب بها ذلك النظام، وبوحدة مصدر المعاناة والتوحد على التخلص من ذلك المصدر ومعالجة نتائج مشاكله السابقة، تكون ثقافة الواحدية قد رسخت وثبتت بالواقع والممارسة، وبالتالي فقضية الجنوب مثلها مثل قضايا الشمال وليس لها علاقة بالوحدة التي تمت وانتهى أمرها بمجرد عودت الجنوب إلى الشمال اليمن الأم في 22مايو 1990م وما حدث بعد ذلك اليوم جميعه يرجع إلى شخص رئيس ذلك نظام وأسرته الحاكمة، هذه الحقيقة الأولى التي تعكسها نظرية (الحيلة الذكية) بإلصاق المسئولية بنظام صالح وأسرته الزائلين، وأما الحقيقة الثانية فإن تلك النظرية تعكس مدى الرغبة في الهروب من المسئولية الأخلاقية قبل القانونية، ومدى الاحتقار والاستهبال للجنوبيين، وعدم صدق النوايا في دعواهم إيجاد معالجة حقيقة للقضية الجنوبية، ذلك أن القول بمسئولية صالح وأسرته فقط عن الانقلاب على وحدة مايو 1990م السلمية ومواثيقها، سيعني أن إسقاط صالح، يفضي إلى سقوط الحق في حل تلك القضية وانتقاله إلى حق المطالبة بالتعويض عما ترتب عليها من أضرار شخصية فقط مثلها مثل بقية المشكلات التي تسبب حدوثها ذلك النظام في الشمال، وهنأ تظهر ثقافة الحيلة والخديعة والمكر أو ما يسميه ابناء عدن (الحكوله على وزن دحبشة)، ويسميها أشقاؤنا في العربية اليمنية رجولة وحذق وذكاء..
أما بالنسبة للهروب من الاعتراف بنتائج ذلك الجرم المرتكب بحق الجنوبيين وحلمهم بالوحدة: فإنهم لا يعترفون بأنه ترتب على حرب اجتياح الجنوب بحرب صيف 1994م وضمها إلى سلطه نظام صنعاء بالقوة العسكرية، انتهاء للوحدة السلمية المعلن عنها في 22مايو1994م، لأنه حسب النظرية السابقة (مسئولية صالح وحدة عن القضية الجنوبية) فإن إسقاط ذلك النظام يعد جزاءً كافياً له عن جميع جرائمه السابقة ضد الشمال والجنوب وتبقى معالجة آثار تلك الحرب على حقوق بعض الجنوبيين الشخصية أو الوظيفية، بل أنهم لا يعترفون حتى الآن بعدم شرعية تلك الحرب ومازالوا يرون بأنها حرب مشروعة للدفاع عن الوحدة ويسمونها بحرب الانفصال.. وعليه:لو كان نظام علي صالح هو المسئول عن كل ما جرى للوحدة ولشعب الشمال ولشعب الجنوب خلال العشرين سنه الماضية، فمن أين أتى نظام علي عبدالله من الشمال أم من الجنوب؟ أليس ذلك النظام هو من مثل شعب الشمال في التوقيع على عقد الوحدة مع النظام السياسي الممثل لشعب الجنوب؟ أليس هذا النظام (ممثل شعب الشمال) هو من انقلب على عقد الوحدة ومواثيقها ودستورها وأقصى شريكه الجنوبي واستبدله بضم الجنوب شعباً وارضاً ودولة الى حكمة وملكه بالقوة المسلحة، ولم يطلب من شعب الجنوب اختيار ممثل له في مشروع دولة الوحدة بعد طرد الأول، بل عين موظفين جنوبيين لديه ولا نسميهم إجراء (محللين) تأدباً معهم واحتراماً لاضطرار معظمهم لقبول ذلك وحسن نوايا البعض، أليس الوحدة عقد سياسياً بين نظامين سياسيين يستمد شرعية وجوده ومشروعية تطبيقه من إرادة طرفيه المعبر عنها في التزاماتهما الموقع عليها بمواثيق ذلك العقد؟؟ أم أن الوحدة مجرد عودة الفرع إلى الأصل وعودة الأرض إلى مالكها الأصلي، وعودة الابن الضال إلى حضن أمه اليمن الطبيعية (صنعاء)؟ الم يشارك في حرب الاستيلاء والنهب والتدمير للجنوب جميع فئات ومكونات الشعب في الشمال بالقول والفعل والمساندة والدعم المادي والمعنوي حتى صارت لغنائم الجنوب المنهوبة، قصص وحكايات أشبه بالأساطير يتبادلها سكان كل بيت وقرية ومنطقه في الجمهورية العربية اليمنية؟ أم أن علي صالح وأسرته وحدهم فقط من اشترك في تلك الحرب الهمجية وذلك النهب المخزي؟؟!!!
فمن هو الانفصالي ومن هو المأزوم ومن هو المريض ومن هو المتطرف ومن هو المناطقي ومن هو الخائن للأمانة والناكث بالعهود والمواثيق...الخ؟؟؟ هل هو الذي ارتكب أو شارك وساهم في كل تلك الجرائم ويرفض حتى الاعتراف والاعتذار عنها؟؟ أم من وقعت عليه تلك الجرائم طيلة سبع عشرة سنة ومازالت مستمرة؟؟ فبأي حق أو حجة ينعت الجنوبيون بالانفصاليين، لسنا انفصاليين، بل هم ...
لسنا انفصاليين: لأننا من حقق الوحدة ورفع علمها في عدن وليس هم..
لسنا انفصاليين: لأننا من ذهب إلى صنعاء بخيرة كوادرهم وكل إمكانيات دولتهم، وهم من سفك دماءنا بشوارع صنعاء وطرد جنودنا من معسكراتهم وركن كوادرنا في بيوتهم..
لسنا انفصاليين: لأننا لم ننقلب ولم ننكث باتفاقيات الوحدة ودستورها، وإنما هم...
لسنا انفصاليين: لأننا لم نعلن الحرب على الشمال ولم ندخل حتى قرية شمالية بالقوة وننهب حقوق وممتلكات أهلها، وإنما هم من احتل الجنوب بالمدفع والدبابة ونهبوا كل شيء ودمروا كل شيء واستباحوا كل شيء كل شيء ومازالوا
لسنا انفصاليين: لأننا لم نسقط علم الوحدة ونقطع صورة رفعه في 22مايو90م، بل هم أسقطوه بالحرب وقطعوا الصورة وقطعوا المعاش وقطعوا الأنفاس...الخ
فمن هو إذن الانفصالي؟؟ وبأي حق يطلبون مننا أن نحتفل معهم ونرفع علماً هم أسقطوه وليس نحن؟؟؟؟وبأي منطق يهرول بعض إخواننا الجنوبيين مرة أخرى إلى باب اليمن، ليباع عبداً في سوق الملح!!!!
الجنوبيون يريدون الوحدة وهم دعاة للوحدة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ولكن ليست وحدة الضم والإلحاق والفيد والغنيمة والجغرافيا والثروات والحيلة والكذب والتمييز والعنصرية، بل وحدة النوايا والنفوس الصادقة والمخلصة وتبادل المنافع والمصالح، والشعور بالكرامة والعزة والمساواة والوجود والانتماء إلى وطن واحد وقيم ومثل عليا، وحدة تحترم خصوصيتي وهويتي وثقافتي وتاريخي وعاداتي وتراثي وإرثي الحضاري الخاص، وحدة قائمة على تراضٍ ومصداقيه ورغبة وحب متبادل، لا على غش وحيلة وكذب وخداع وزيف وتملق وغدر وخيانة ونوايا سيئة من الشريك الآخر، وحدة تؤسس دوله مدنية حديثة ينقاد الجميع لسلطان قانونها ونظامها ويطبق عليهم دون تمييز بين رئيس ومرؤوس وشيخ ورعية...الخ هذه هي الوحدة التي ضحى لأجلها الجنوبيون في 22مايو1990م وقدموا دولتهم بكل إمكانياتها قرباناً لها، ولكن لم يفهم أشقاؤنا ذلك واصطفوا جميعاً مع نظامهم الأسري للقضاء عليها وارتكاب الجرائم الشنيعة بحق الجنوبيين في حرب احتلال الجنوب في صيف 1994م وما بعدها.. هل يدرك أشقاؤنا بالجمهورية العربية اليمنية هذه الحقائق اليوم ؟؟ استطيع اجزم أن معظمهم وخصوصاً النخبة منهم يدرك هذه الحقائق، ولكن الظاهر؛ أن التخلص من ثقافة الماضي مسألة شاقة وعسيرة لدى معظمهم.. إزاء ذلك لا يملك الجنوبيون إلا تذكيرهم وتذكير كل من حجبت عنه رياح اللحظة التاريخية، الرؤية الصحيحة:
إن الجنوبيين كانوا ومازالوا الوحدويين الحقيقين ولم يكونوا ولن يكونوا يوماً انفصاليين ودعاة فرقه وتشرذم، ولكنهم لن يقبلوا مرة أخرى بالتدليس عليهم باسم القيم الوحدوية الجميلة بادعاء وحدة ليس لها وجود في الواقع والنفوس منذ تم القضاء عليها بالحرب والنهب والقتل والتشريد في حرب صيف 1994م من قبل الطرف الآخر فيها، ولن يقبلوا مرة أخرى خديعة(اتبعني شاخارجك) فزمن البلاهة والشعارات الجوفاء انقضى وطوينا شراعه.... وعندما يفيق أشقاؤنا في الجمهورية العربية اليمنية من غفلتهم وتغافلهم عن هذه الحقيقة ويعترفوا بها ويعلنوا رغبتهم في الدخول بوحدة حقيقية مع شعب الجنوب، فإن شعب الجنوب وحده دون سواه من يقرر قبول ذلك الطلب متى اطمأن بشأن صدق نوايا أشقائه ورغبتهم الحقيقية في تحقيق ذلك الهدف والحلم القومي النبيل على أسس صحيحة وسليمة، وغير ذلك فلن يجنوا إلا خيبات ولن يفلحوا أبداً أبداً، إلا من قبيل شعارهم المتداول(كُبْ إلى شعوب)
هل سيدرك أشقاؤنا والمهرولون الجدد، ذلك؟؟
الأيام القادمة ستجيب عن ذلك........
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى