شهران على انتفاضة الكرامة السورية
يثير التدهور المضطرد في الأوضاع، والتفاقم المتزايد في الأزمة السورية، تساؤلات كثيرة لدى الرأي العام السوري عموما حول حقيقة نوايا النظام الحاكم تجاه مسألة الإصلاح، وموقف الدول العربية والمنظومة الدولية منها، وحول ما حققته الحركة الاحتجاجية السورية حتى الآن، وما يمكن أن تحققه في المستقبل.
ويدور التساؤل أيضا حول الإستراتيجيات الأمثل التي ينبغي تطويرها للرد على التحديات الكبيرة والمتعددة التي تواجهها، سواء ما تعلق منها بتصميم السلطات السورية على استخدام القوة بكل أشكالها لوضع حد للمسيرات السلمية، مهما كلف تحقيق هذا الهدف من ضحايا، أو بمخاطر الانزلاق نحو العنف أو الفتن الطائفية التي تقود إليها المواجهة العسكرية التي تفرضها السلطة على المحتجين، أو بالموقف المتردد الذي تقفه الدول الكبرى والدول العربية تجاه مطامح الشعب السوري للوصول إلى الديمقراطية كغيره من الشعوب العربية، سواء أكان ذلك ثمرة الخوف من الفوضى أو عدم الثقة بالمستقبل، أو الحفاظ على مصالح حيوية يمكن ضمانها مع النظام الراهن، بصرف النظر عن سلوكه، أكثر منه مع نظام جديد يلعب فيه الرأي العام السوري دورا أكبر في صياغة الخيارات الإستراتيجية.
تبين المظاهر الضخمة لمواجهة حركة الاحتجاج، التي وضعتها السلطة السورية في إطار الحرب على الإرهاب والتخريب، والتي تشمل تحريك أرتال عسكرية كاملة، ومحاصرة مدن، وقتل مئات الأفراد، واعتقال الآلاف، بالإضافة إلى إصرار المسؤولين السوريين على فكرة المؤامرة السلفية، والتي يهدفون من خلالها إلى منع المسيرات السلمية, أن النظام لم يقتنع بعد بضرورة وحتمية تطبيق برنامج جدي للإصلاح، ينقل البلاد من نظام الحزب الواحد إلى نظام ديمقراطي تعددي يضمن الحقوق الأساسية للشعب، وفي مقدمها الحريات الأساسية وحق الجميع في المشاركة على قدم المساواة في القرارات السياسية عن طريق ممثلين منتخبين على أساس الشرعية الدستورية.
وهو لا يزال مصمما كما هو واضح على أن يتجنب التنازلات، بل هو يرفض حتى مبدأ التنازل للشعب، ويعتبر أن القبول بهذا المفهوم يعني إضعاف النظام، وهو يسعى بجميع الوسائل كي يظهر حتى التنازلات على أنها ليست تنازلات للشعب وإنما هي أعطيات ومنح من الرئيس المدرك لضرورات الإصلاح.
الهدف دائما هو حذف الشعب اسما وهيئة سياسية وحضورا ماديا في الشوارع والساحات، من الصورة تماما، واستبداله بوجهاء وزعماء أحياء ومشايخ أو فقهاء، يمثل كل واحد منهم طائفة من الناس أو فئة أو منطقة من المناطق، يمكن التفاوض معهم، أو بالأحرى التفاهم على بعض المنح والامتيازات والمكارم التي تعزز موقعهم في طائفتهم أو عشيرتهم أو ناحيتهم أو قومهم، لكن تحرم الشعب كهيئة سياسية بشكل أكبر من وجوده وحضوره ودوره في المشاركة في السلطة، أي من حقوقه الأساسية موضوع الصراع، وتترك الحكم وأمور السياسة أو تضعها بشكل مطلق وكامل في عهدة رجل واحد هو الرئيس، السيد الوحيد، والحر الوحيد والمتكلم الوحيد والمقدس الوحيد، الآمر والناهي، الآخذ والواهب، الأول والآخر في البلاد والمجتمع.
من هنا لا يمكن القبول بمعادلة جديدة يكون للشعب فيها موقع هو موقع الشريك أو المحاسب أو المسائل في مواجهة السلطة والحكومة، فما بالك بأن يكون، كما تقضي الشرعية الدستورية، السيد الوحيد والمطلق في البلاد، هو الذي يقرر عن طريق الانتخابات من يمثله، ويعامل ممثليه كخدام له، يرعون شؤونه ويسهرون على راحته، ويقدمون الحساب له عن أعمالهم، وهو الذي يقرر في الانتخابات الدورية استحقاقهم في العودة إلى مناصب المسؤولية أم لا.
الصراع كما هو واضح هنا يدور حول من هو صاحب السيادة في البلاد، هل هو من يملك القوة العسكرية التي ضمن النفوذ إليها بوسائل غير شرعية أم هو الشعب الذي يستند إلى حقه السياسي الطبيعي، ويطمح إلى أن يكون صاحب الكلمة الأولى في كل ما يتعلق بإدارة شؤون وطنه، بما في ذلك إشرافه على هذه القوة نفسها التي تحولت إلى قوة تسلط وقهر له بعد أن تمت مصادرة إرادتها من قبل فئة خاصة جعلت منها وسيلة لتخليد سيطرتها عليه وسلب الشعب حقوقه وحرياته.
يقول أنصار النظام أعطونا الوقت أعطونا فرصة، توقفوا عن المسيرات السلمية؟لماذا يريد النظام وقف المسيرات بأي ثمن؟ لو كانت هناك نية حقيقية في الإصلاح ما كان هناك أي معنى لإصرار النظام على وقف المسيرات السلمية. بالعكس، المطالبة بإيقافها والحديث عن ضرورة إعطاء فرصة للنظام حتى يظهر صدقه في الإصلاح هو الذي يثير الشك ويبرر انعدام الثقة.
فهو الذي يملك كل الوقت. ويستطيع أن يتصرف فيه كما يشاء. من الذي يسرقه منه؟ بالمقابل المحتجون هم وحدهم الذي يقتلهم البطء وغياب الوقت. فحركتهم تكلفهم غاليا في الأرواح وفي الموارد أيضا. بينما لا يكلف الانخراط في عملية الإصلاح شيئا للنظام سوى التعبير عن التزامه بالفعل ببرنامج إصلاحي.
فبإمكان النظام الذي يملك القرار والوقت والموارد معا، من دون انتظار، الشروع في الإصلاحات التي يقول إنه سيطبقها، ويترك الناس المشككين يتظاهرون بطريقة سلمية، حتى يكتشفوا بالملموس أن نوايا النظام الإصلاحية حقيقية. ولو فعل ذلك لوفرنا على شعبنا مئات الضحايا وحفظنا مجتمعنا من مخاطر الانزلاق والفتنة والخوف وذاكرة المأساة التي نغذيها كل يوم بصور أبشع لا بد أن تعود يوما إلى مقدمة وعينا.
السلطة الآن في حرب معلنة على القوى الاحتجاجية منذ شهرين كاملين، والاقتصاد يتضرر والناس الفقراء يزدادون فقرا ومعاناة، والطوائف والجماعات تزداد شكوك بعضها بنوايا البعض الآخر، والعالم بدأ يفقد الثقة ببلادنا وينظر إلى حكومتنا نظرة لا يمكن أن تكون إيجابية عندما تكون أخبارنا اليومية خلال أشهر إحصاء عدد القتلى والجرحى والمعتقلين. والمشاكل التي دفعت إلى الاحتجاج أصبحت أصعب حلا بكثير مما لو بدأنا بمواجهتها في إطار سلمي ومن دون الدخول في هذه المواجهات المؤلمة والمأساوية.
ماذا لو أن النظام استغل هذين الشهرين لتطبيق برنامج الإصلاح الذي يقول إنه مؤمن به، وترك الناس يعبرون عن أنفسهم كما حصل في تونس ومصر بدل أن يزج بالبلاد في حرب لا أحد يعرف مخرجها ومآلها، وتوسيع دائرة المناطق المنكوبة التي تحول شعبها إلى لاجئ في وطنه، ولا يعرف كيف يؤمن حياة أبنائه؟
ألم يكن هذا حلا أفضل وأكثر اتساقا مع خطاب الوطنية وتفاهم الشعب والحكم وتعاونهما؟
لماذا يصر النظام، مهما كان الثمن، حتى لو كان اختلاق إمارة إسلامية وشن الحرب عليها، على ربط تطبيق برنامج الإصلاح بوقف المسيرات السلمية، بينما مبعث الاحتجاج لم يكن إلا إلغاء التهميش التاريخي للشعب وطموح أبنائه، بعد إنكار طويل، إلى أن يكونوا شركاء في الوطن وفي القرار، وأن يمتلك كل واحد منهم الحق نفسه في العدالة والمساواة والتعبير عن رأيه والمساهمة في تقرير سياسة بلده، مما يشكل المضمون الرئيسي للمواطنة وللحريات السياسية؟
لا يمكن لسياسة القضاء بأي ثمن على المسيرات الشعبية، وهو ما طالب به وزير الداخلية وأعلنه وزير الخارجية أيضا منذ إلغاء قانون الطوارئ قبل أكثر من شهر عندما قالا: الآن وقد تحقق الإصلاح على الناس أن تكف عن التظاهر، أقول لا يمكن لهذه السياسة إلا أن تثير التساؤل في نظر أي مراقب محايد للأوضاع.
فهي تعني أن الهدف الرئيسي للنظام ليس الإصلاح وإنما القضاء بأي ثمن على حركة الاحتجاج. فهو بذلك يضمن أن لا يضطر إلى القيام بإصلاح جدي يحقق مطالب الشعب، وفي مقدمتها الاعتراف بحقوقه ومشاركته في القرار، وأن يظل هو وحده الذي يقرر نوعية الإصلاح وأسلوبه ورزنامته.
وهذا يعني أن يضمن أيضا أن يكون الإصلاح من النوع الذي يوافق مصالحه كنظام، وأن يحافظ على استفراده بالقرار والسلطة غدا كما كان الوضع في الماضي. وخلاصة ذلك أنه لا يزال يرفض الاعتراف بالشعب كطرف في معادلة السلطة القادمة، وبشرعية مطالبه ومشاركته في تقرير ممثليه واختيار قادته، وهذا ما يفسر أيضا الأوصاف السلبية والمهينة أحيانا التي يستخدمها مناصرو النظام وأجهزة إعلامه لوصف الشعب والمحتجين.
فهم حثالة لا تفهم معنى الكرامة والحرية، وهم مجموعة من الصراصير التي ينبغي القضاء عليها، وجماعات سلفية مغلقة وغبية لا يمكن أن تشارك في قرار هو من اختصاص النخبة التي يمثلها في نظرهم أصحاب النظام.
وهذا هو الذي يفسر العنف الذي يواجه به النظام حركة الاحتجاج الشعبي والمؤامرات التي يخترعها والأفلام التي يركبها عنها، ويدفع وسائل إعلامه إلى التهويش بها، مع الاستهتار بأي إطار قانوني أو خطاب سياسي أو تحقيق جنائي.
وهذا هو المعنى الوحيد للحرب التي أعلنها النظام باسم الحرب على الإرهاب والتخريب، على الشعب وحركة الاحتجاج التي تمثل أغلبيته، والتي لا تختلف كثيرا عن الحرب التي أعلنتها الإدارة الجمهورية في بداية العقد الأول من هذا القرن على الشعب العربي، تحت الذرائع نفسها وبالاسم ذاته.
يفكر النظام، وهو على حق في ذلك، بأن أي تنازلات يقدمها، مع حضور الشعب والاعتراف بوجوده، أي مع استمرار حركة الاحتجاج، سوف تدفع إلى المزيد من التنازلات، ويمكن أن تقوده في النهاية إلى وضع يصبح لا مهرب منه من تغيير النظام، أي من الاعتراف بحق الشعب في أن يختار ممثليه ويسترد حرياته الضائعة وسيادته.
من هنا، حتى يخرج من الأزمة بأقل الخسائر، وربما يحفظ أيضا جوهر نظامه القائم على تهميش الشعب وإقصائه، لا بد من كسر شوكة الانتفاضة وزعزعة إيمان الشعب بمقدراته وضرب تصميمه. فإذا نجح في ذلك، يستطيع غدا أن يصوت في البرلمان نفسه، وهو مجموعة من الدمى التي تقوم بتبجيل الرئيس وتنظيم طقوس عبادته، على حزمة من الإصلاحات الشكلية، ويقول ها نحن استجبنا للشعب. لكن غياب الشعب، واستعمار المؤسسات، وتسلط الأجهزة الأمنية وسيطرتها الكاملة على السلطة، سوف تفرغ أي قانون أو مرسوم، مهما كان، من أي مضمون.
يراهن النظام السوري بالتأكيد على الموقف العربي والدولي الذي لا يزال متخبطا ومشوشا حتى اليوم. وهو ما يتنافى مع ما حصل في بلدان عربية أخرى، والذي وقفت فيه الأطراف الدولية بشكل أوضح مع الحركة الشعبية في مواجهة إصرار الحاكمين على التمسك بالسلطة.
ولتخبط الموقف الدولي تجاه قضية الشعب السوري أسباب عديدة، يرتبط بعضها بالاتفاقات والتسويات الضمنية أو الرسمية التي تجمع بعض الأطراف مع النظام، وبعضها الآخر بالخوف من التورط في ملف جديد من ملفات الشرق الأوسط الصعبة، والعمل في مناطق صعبة ومليئة بالفخاخ.
ولذلك بعد بيانات الضغط القوية التي صدرت عن العديد من العواصم الغربية، عاد الجمود من جديد ليحتل الساحة الدبلوماسية، بل ربما حصل تراجع في الموقف الأميركي لصالح النظام بعد أن أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن اعتقادها بأن الرئيس بشار الأسد لا يزال رجل إصلاح.
وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي لهذا التراجع هو الفراغ السياسي الذي يخيم على جو الانتفاضة، وشك الأطراف الدولية بقدرة قوى المعارضة على الخروج من انقسامها وعطالتها وتشكيل بديل مقنع وذي صدقية للنظام الذي يعتقد الجميع بأنه دخل في مأزق قاتل لن يستطيع أن يخرج منه، وأن من غير الممكن للعنف المفرط الذي يستخدمه ضد مواطنيه أن يسمح له باستعادة ثقة الشعب به.
لكن مهما كان الموقف الدولي فهو ليس العامل الرئيسي الذي يحدد مصير التحول السوري. فكما كان عليه الحال في تونس ومصر والبلاد العربية الأخرى، يتوقف المستقبل، بما في ذلك تغير الموقف الدولي لصالح التغيير، على الديناميكية الداخلية التي تعبر عنها الانتفاضة، وعلى تصميم الشعب السوري وقدرته على التضحية من أجل الظفر بمطالبه.
وقد أظهر حتى الآن روحا بطولية لم يحصل أن وجدت في أي من الانتفاضات العربية السابقة، ولا يزال مصرا على الانتصار. بل لقد زاده عنف السلطة اقتناعا بحتمية التغيير وضرورته، حفظا لكرامة أبنائه الذين يهانون كل يوم ويستهزأ بمصالحهم وعقولهم، وصونا لمستقبل شبابه، وتأكيدا لحقه في أن يكون سيد وطنه وشؤونه.
وهو يدرك أن الوقوف الآن في منتصف الطريق لا يقدم له شيئا ولكنه يذهب بتضحياته أدراج الرياح، ويقدم نصرا لنظام ظالم وقاس لن يتردد في الاستفادة منه لتوسيع دائرة البطش والتنكيل بالشعب، وقطع الطريق على أي أمل في التغيير لمستقبل بعيد.
وبعكس ما يبشر به بعض البسطاء والسذج، لم يتعلم النظام من الثورة التي قامت ضده درسا إيجابيا يدفعه إلى القيام بإصلاحات أكثر في المستقبل، ولكنه ولد من رحمه، في شهري مواجهته الماضيين للشعب الأعزل، نظاما فاشيا جديدا، لن يتردد في قتل الأفراد واغتيالهم وقهر إرادة الجمهور بأقسى وسائل العنف، كما يفعل الآن تماما.
لقد أصبح القتل أسهل عليه من الكلام، كما هو واضح، ولديه من وسائل القتل الكثير. سيمكنه هذا الاستخدام المكثف للعنف من أن يركب على ظهر الشعب ويهينه ويسومه من العذاب ما لم يحلم في عمله من قبل. سيكون بامتياز نظام العنف والعقاب الجماعي، والتنكيل بالمثقفين والسياسيين، تماما كما يحصل اليوم من قتل بالجملة، واتهامات بالجملة، واعتقالات بالجملة، وعقوبات جماعية للمدن والأحياء.
وسوف تتحول الجمهورية الملكية التي صار إليها النظام إلى إقطاعه يملك فيها السيد الإقطاعي، سيد الوطن، الأرض ويحول جميع من يعمل ويعيش فيها إلى أقنان تابعين ومأمورين.
بالمقابل، يعني خيار الاستمرار في الثورة أن الشعب سيعاني كثيرا أيضا، ولن يتوقف دم الضحايا الأبرياء عن النزيف. لكن ليس أمام الشعب السوري خيار آخر سوى الاستسلام وتحمل آلة القتل والقمع لسنوات طويلة قادمة، أو العض على جرحه والتصميم على المقاومة حتى النصر على الطغيان.
وبهذا الإصرار سوف يغير موقف الدول العربية والأطراف الدولية التي استسهلت التضحية بحقوقه اليوم، وهي تزداد إعجابا وتقديرا لبطولة أبنائه يوما عن يوم.
لكن، بصرف النظر عن المواقف العربية والدولية، وسلوكيات النظام المشينة تجاه شعبه، حققت حركة الاحتجاج السورية مكاسب هائلة بالمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع قبل شهرين.
وليس كسر حاجز الخوف هو الوحيد الذي يتصدر هذه المكاسب ولكن، أكثر من ذلك، تأكيد وجود الشعب نفسه من خلال حركة الاحتجاج بوصفه فاعلا سياسيا، ودخول مئات ألوف وربما ملايين السوريين الذين كانوا قد استقالوا من السياسة واستسلموا للأمر الواقع إلى المعترك السياسي، وانخراطهم في نشاطات معارضة شتى لا تقتصر على المشاركة في المسيرات.
فالناس المتعاطفون مع حركة الاحتجاج أكثر بكثير من المساهمين فيها، وهم لا يكفون عن إعلان تأييدهم وتمسكهم بمشروع التغيير وإحلال نظام ديمقراطي محل نظام احتكار السلطة السابق.
بل ربما أمكن القول إن فكرة حتمية التحول نحو نظام ديمقراطي قد ولدت في حركة الاحتجاج هذه ولم يكن هناك كثير من السوريين يعتقدون أن ذلك ممكنا أو متصورا في الأمد القريب.
اليوم يعرف السوريون جميعا، بمن فيهم فئات واسعة داخل دائرة مؤيدي النظام، حقيقة النظام السياسي الذي يعيشون في ظله ومخاطره على حياة الأفراد ووحدة البلاد واستقرارها. وقد خبروا تفكير قادته والدرجة المتدنية لإدراكهم لمضمون مسؤولياتهم، وحرصهم على حياة مواطنيهم ومصالحهم، من خلال الرصاص الحي الذي لا تزال القوى التابعة للنظام تطلقه على السكان العزل والأبرياء منذ شهرين كاملين، وكل يوم من دون توقف.
هكذا بعد القطيعة مع الخوف نشهد اليوم قطيعة متزايدة لمختلف فئات الشعب والرأي العام مع النظام، وتقيؤه من قبل قسم كبير من أنصاره ومؤيديه السابقين.
كان النظام قبل شهرين يحظى بألف بالمائة من السلطة، ويحتكر القرار المطلق في كل الشؤون المدنية والسياسية، من حق التعبير عن الرأي إلى حق التنظيم إلى حق السير في مسيرات والتظاهر ورواية الأحداث والتاريخ عبر الإعلام.
واليوم فقد النظام على الأقل نصف هذه السلطة، وفرض الشعب مشاركته، رغم الاستخدام المكثف للعنف، في الكلام والتعبير والتنظيم والتظاهر والإعلام ورواية الأحداث. بل فرض على الرأي العام العالمي نفسه التطلع بإعجاب لملحمة الحرية التي يكتبها الشعب السوري بدماء أبنائه البررة.
ولن يمكن للنظام الذي اضطر إلى يفقد نصف وزنه حتى الآن، وأصبح يسير على قدم واحدة، هي الآلة القمعية، أن يستمر طويلا في مواجهة المصير المحتوم. ولن تكف كفة المعارضة الشعبية عن النمو على حساب كفة النظام الذي يخسر كل يوم فئات جديدة من أنصاره السابقين بسبب ما يستخدمه من وسائل لا قانونية ولا شرعية ولا أخلاقية في مواجهة حركة الاحتجاج الشعبية السلمية والتي اعترف هو نفسه في البداية بطابع مطالبها الشرعي قبل أن ينقض عليها باسم مكافحة الإرهاب وقطع الطريق على إقامة الإمارات الإسلامية التي هي من صنع خياله وأجهزته الضعيفة وغير المهنية.
ليست حركة الاحتجاج الشعبية هي التي تواجه اليوم أزمة إذن، وإنما من يواجه الأزمة ويدخل في "الحيط" هو النظام. فقد دفعته معركته الخاسرة ضد شعبه إلى أن يتجرد من جميع أقنعته السياسية والقانونية والأخلاقية، وأن يلبس لبوس مليشيات القرون الوسطى ويحارب بسيوفها العارية إلا من البحث عن الربح والغنيمة.
وبمقدار ما طلق السياسة وامتشق سلاح العنف، فقد أي أمل في أن يستعيد مكانته كنظام سياسي. ومن غير الممكن أن يربح ثقة شعبه بممارسة المزيد من القتل والكذب والخداع. لذلك لن يطول الوقت قبل أن يكتشف النظام أن الحل الأمني غير قادر على حسم المعركة، وأنه لا مهرب له من الانفتاح والجلوس مع ممثلي الاحتجاج على طاولة المفاوضات. وحينئذ لن يكون من الممكن الاستمرار في القتل وحصار المدن وتجويع السكان. ولن تكون الأطراف الدولية محايدة في دعم قضية التغيير والإصلاح.
من هنا إن الرد على تصعيد النظام للعنف لا يكون أولا إلا بمواصلة مسيرات الاحتجاج حتى يفقد النظام إيمانه بإمكانية القضاء على الاحتجاج بالعنف، مع ضرورة إعادة تنظيمه لتجنب أكثر ما يمكن من الخسائر في الأرواح، وثانيا بالعمل على طمأنة قطاعات الرأي العام السوري التي لا تزال خائفة من الانخراط في المسيرات الشعبية، على الرغم من إيمانها بضرورة التغيير ورفضها سياسات النظام الراهنة وإستراتيجياته الأمنية اللاإنسانية.
ولن يمكن تحقيق هذين الهدفين من دون سد الثغرة التي لا تزال تشجع النظام على الابتزاز بالعنف والاستفادة من سلاح الإرهاب، وتثير القلق عند قطاعات الرأي العام السوري الواسعة، ولا تساهم في طمأنة الرأي العام الدولي على مستقبل الاستقرار والسلام الأهلي في سوريا.
وهذه الثغرة ليست شيئا آخر سوى غياب هيئة سياسية قوية تعكس مطالب الحركة الاحتجاجية وتبلورها وتتمتع بما ينبغي من الصدق لدى الشعب ولدى الرأي العام الدولي. وهذا ما يستدعي العمل على لم شمل المعارضة السورية، من حركات احتجاجية شبابية ومستقلين وأعضاء في أحزاب، في إطار مبادرة واحدة تعبر عن وحدة الشعب ووحدة المطالب الديمقراطية معا.
فغياب الغطاء السياسي لحركة الاحتجاج يزيد من تغول السلطة ويشجعها على المضي في القتل أملا بإخماد روح المقاومة قبل أن يتكون لها رأس سياسي ومرجعية تتماسك من خلالها. كما أن الرأي العام الدولي يتردد في الضغط على النظام أكثر طالما لم يجد هناك مسؤولين سياسيين واضحين وراء حركة الاحتجاج يخاف من انتقاداتهم أو يؤمن بأن هناك محاورا سياسيا ذا صدقية وتمثيلية يمكن له أن يقف سياسيا في مواجهة النظام.
بتحقيق ذلك لن يبقى أمام النظام خيار آخر سوى أن يلقي سلاح العنف، ويقبل بفتح مفاوضات جدية لن تكون ممكنة إلا إذا كان هدفها الواضح منذ البداية الخروج من صيغة النظام القائمة على الاحتكار والفساد وبطش الأجهزة الأمنية، والانتقال نحو نظام ديمقراطي تعددي يضمن لجميع أبناء سوريا حقوقهم ويؤمنهم على حرياتهم ومستقبل أبنائهم.
ولن يكون الحوار عندئذ على أجندة السلطة الرامية إلى تعزيز النظام القائم، وإنما سيتمحور حول الاتفاق على آليات الانتقال ورزنامته وعلى القرارات والإصلاحات المؤدية لذلك.